الفصل الرابع : سورة الضحي
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
سبب نزول هذه السورة هو انحباس الوحي وقول المشركين إن محمداً قلاه ربه كما حرر في أسباب النزول
(والضحى) : ها هنا هو النبي محمد r وإنما سماه الله ضحى لأنه خلق من نوره تعالى كما جاء إن الله تعالى قبض قبضة من نوره فقال لها كوني محمداً فكانت والضحى هو ارتفاع الشمس عن القامة وهو فرد من أفراد النور لأ، النور يكون أنواعاً مختلفة وهذا منهما
وإنما اختار هذا الفرد من بين الأنوار لأن وقت الضحى هو أشرف حالات الشمس التي تكون عليها من السناء والصفاء والاستنارة ، وبين النبي وبين الشمس مناسبة ظاهرة من حيث إن الله تعالى جعل الشمس سراجاً وجعل النبي r سراجاً فقال تعالى جل جلاله في ذلك : (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)
فلما كان بينه r وبين هذه هذا الاتصال بشهادة القرآن أطلق عليه أشرف حالاتها وأجل صفاتها قال جل وعلا (والليل إذا سجى) قال أرضاه الله تعالى في عطف الليل على والضحى إشارة إلى الإسراء ، وارتفاع النبي r بأنه مخلوق من نوره أتبعه بتذكيره أمر الإسراء والقرب والوصال
والسر في القسم بهذين الأمرين أن يكون القسم في نفسه دليلا وبرهانا على المقسم عليه وهو قوله تعالى : (ما ودعك ربك وما قلى) وذلك أن من كان مخلوقا من نور حبيبه فهو بمنزلة الجزء منه وقد وقع بينه وبينه من القرب والوصول ما لم يقع لغيره من ابناء جنسه ، وأنه يبعد كل البعد أن يلقي وأن يهجر لا لذنب ولا لسبب فمعنى هذا القسم في نفسه بشارة للنبي r وتبيين وتأمين وهذا من مخزون الأسرار (فتبارك الله أحسن الخالقين)
ثم قال الله تعالى : (وللآخرة خير لك من الأولى) قال الشيخ أرضاه الله : الآخرة هنا صفة للحال الآخرة من حالة الوحي وهي الواقعة قبل الانقطاع
وذلك لأن العلة والحكمة في انحباس الوحي هي التعطش له والترغيب فيه لأننا بخبر ما كثر وتوالي من المحسوسات إذا لم يمل فأقل أحواله أنه لا يطلب أي لا تتشوق إليه النفوس ، وما جاء بعد فقده كان له من اللذة والحلاوة ما ليس في الأول وتلك مشاهدة بشهادة الوجدان
وقال جل ذكره : (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
قال الشيخ أرضاه الله تعالى : قيل إن هذه الآية أجرى آية في القرآن ، وكذلك قال النبي r ، قال : (أرضي وواحد من أمتي في النار) وكلام النبي من المعلوم أنه صدق لا يمكن تخلف مخبره وكلام الله تعالى كذلك
والحاصل أنه لا يرضى الله تعالى إلا لخروج جميع الأمة ورضاه واقع قطعاً ، وإذا أردت أن تبرزه بالبرهان العقلي وتصوره قياساً منطقياً كان هكذا : خروج الأمة من النار يرضى النبي r ، ورضي النبي r لا محالة ، وهذا من الشكل الأول
ودليل الأول : قوله r : لا أرضى
ودليل الثاني : قوله تعالى : (فترضى) ينتج من هذا خروج جميع الأمة من النار واقع لا محالة
قال تعالى (ألم يجدك يتميا فأوى)
قال سيدي أحمد بن إدريس رضي الله تعالى عنه : اليتيم هنا هو الذي لا نظير له على حد قول البوصيرى
حبذا عقد سؤدد وفخار أنت في اليتيمة العصماء
وإنما كان يتيما بهذا المعنى لثبوت المزايا السابقة من بين أفراد جنسه من خلقه من نور الحق ورفعه إليه ودنوه في الظاهر والله تعالى أعلم وأكرم
إن معنى قوله : يجدك على هذا يوجدك من الإيجاد لا من الوجود أي ألم يخلقك فرداً بلا نظير (فأوى) الفاء للسببية خلقك من نوره واتصالك به آواك إليه أي ردك إليه فأنت منه إليك
ثم قال تعالى : (ووجدك ضالا فهدى)
ضلال النبي عليه الصلاة والسلام عن قدر نفسه ، وحيرته في معرفة خلقه وعنصره (فهدى) أي هداك للمعرفة بنفسك وهذا من أعظم الهدى ، لأن الشخص إذا جهل قدر نفسه فربما وضعها حيث يستحق الرقع ، أو رفعها حيث يستحق الوضع فيترتب عليه مفاسد لا تخفى ، وإذا عرف قدرها تصرف فيها بحسب المراد لمولاه (ووجدك عائلا) أي فقيرا إليه تعالى (فأغنى) أي أغناك به تعالى
(فأما اليتيم فلا تقهر) لما ذكر اليتيم سابقاً ناسب أن يرشد نبيه إلى التخلق مع اليتامى بما تخلق الله تعالى به معه
(وأما السائل) أي السائل عنا والمتعرف برحمتنا وفضلنا (فلا تنهر) أي فلا تقنطه ولا تيئسه بمعنى أنك رغبت فينا فنلت فضلنا
(وأما بنعمة ربك فحدث) شوقهم إلينا وأخبرهم عنا وعن أصلك الذي هو أصلك لعلهم يأنفون من الميل إلى حضيض السوي ، ويرفعون رؤوسهم إلى حضرة جمالنا فيميلون إلينا ميل الفرع إلى أصله ، فيعشقوننا ، وحب الوطن من الإيمان ، ولا وطن لقبضته النورية التي قال لها كوني محمداً ، وخلق أجسامهم بيديه وما أرسل الله الرسل إلا ليحببوا عباد الله في الله تعالى ويحببونه فيهم ويرغبونهم فيما يحبهم الله عليه من الأعمال والأخلاق ويذكرونهم بأيادي الله عندهم وصنائعه لديهم ، ويشفعون لدى الله فيهم ليقبلهم ، كهيئة المصلح بين العبد وسيده سواء بسواء ولا يوقفونهم مع الخوف منه ، لأنه لا يخاف المرء إلا من عدوه ، وما هناك إلى الحبيب ، بل يحذرونهم من موجب غضبه بقدر ما تمس الحاجة إليه كوضع الملح في الطعام لا غيره ، عما قليل تزجره ولكن إذا أعطيته المزجر فليكن بقدر ما يعطي الطعام من الملح ؛ لأن الخائف كثير التلفت ، والمحب يجد السير وهو سباق وفي المثل : الخائف سيار والمحب طيار ، وخوف العبودية للربوبية لازم لا ينفك وهو وحده كاف لمن عقل والله تعالى الموفق وعليه التكلان
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ألم نشرح
(ألم نشرح لك صدرك) قال سيدي أحمد بن إدريس رضي الله تعالى عنه : هذه السورة عظيمة جدا وهي وسورة الضحى سورتا النبي r
وقوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) ألم للتقرير وثبوت نعمة الشرح التي أهى أعظم نعمة وذلك من وجهين :
الأول : إيتاؤه إياها
والثاني : ابتداء من الحق بلا سبق طلب منك ، ففرق بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام حيث لم يعطه ذلك إلا بعد طلب بقوله : (رب اشرح لي صدري) فهو يقول : غيرك لم يعط إلا بعد طلب ، وأنت ابتدأتك بالعطاء اعتناء بك ، والشرح يطلق على التوسيع وعلى البيان
فعلى الأول : ألم نوسع لك صدرك بنورنا حتى وسعنا ، وفي الحديث القدسي (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الورع الموقن) ولا عبد مؤمن اتقى وأنقى وأورع منه r وعلى الثاني : ألم نبين لك حقيقتك أي بقولنا : (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) فأبنا – أي أظهرنا – لك أن حقيقتك هي حقيقتنا وعنصرك هو نورنا ، والصدر أيضاً يطلق على القلب وهو المناسب للشرح بمعنى التوسيع ، ويكون مصدر أصدر وعليه : ألم نبين لك أن صدروك أي بروزك من عندنا وقبضة من نورنا فقلنا لها كوني محمداً فكانت ، وإذا عرفت ذلك عرفت نفسك ، ومن أين أنت ومن أين أصلك وحينئذ فلا أصل . أأصل منك . ولا أشرف لكونك من نور الله ليس غيره ، فلا أعظم من الله ولا أعظم ممن هو منه نوره ، وهنا معنى غدق عبق يبعد عن العقل ولا يأتي به اللسان إلا أن يفتح الله الباب حين يذاق من حضرة الوهاب وإلا فلا عبارة تبلغه كما هو
وقوله عز وجل (ووضعنا عنك وزرك) الوزر : الحمل ، ومنه (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) والمراد به ما كان يقاسيه عند نزول الوحي عليه في ابتداء الأمر فقد كان r يرغو عند نزول الوحي عليه كما يرغو البعير لثقل الوحي عليه كمال قال الله تعالى (إنا سنقلي عليك قولا ثقيلا) وقوله (الذي أنقض ظهرك) أي أثقله وأظهر ذاته كلها لكونها كانت في ضعف المخلوقين فتثقلها الأشياء ، فإن العبد إذا كان بنفسه كان ضعيفاً كائنا ما كان ، وفي الحديث المرفوع من دعائه r (فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وعجز) أو كمال قال
فهو يعني بذلك من حيث مخلوقيته ، وأما إذا كان بربه فهو قوي وهو لتحققه بالتقوى به سبحانه وسريان القوة الإلهية فيه حينئذ يتلقى من الله بالله وتلقيه به ، والمعنى زالت مخلوقيتك بالرجوع إلى أصلك الأول الذي هو النور الإلهي ، ولما ذهبت ظلمة المخلوقية ذهب ما يترتب عليها من الكلف وجميع لوازمها
وقوله عز وجل : (ورفعنا لك ذكرك) أي بقولنا (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) لا كما قال بعض المفسرين : لا أذكر إلا وتذكر معي ، فإنه معنى هزيل ضعيف جدا بالنسبة لما ذكرنا من أن المراد عين ذكر الله
وقوله : (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) أي الذين يرونك إنما يرون الله وقال r : " من رأى الحق " والحق هو الله . قال الشيخ صالح الجعفري :/ والمعنى فكأنما رأى الحق – أي رأى صورتي الحقيقية التي خلقني الله عليها لأن الشيطان لا يتمثل بي – أ هـ
ومن أعظم النعم على هذه الأمة قوله r : (من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) وأولياء الله تعالى من أمته يرونه دائماً ، والناس يرونهم ، فقد حصل للعامة الخير الكثير برؤية من يراه ، كما قيل : (لعلي أراكم أو أرى من يراكم) . بل منهم من يتصبن بصابون طاعته الشرعية ولم يتصبغ بلونه حتى يصير هو هو ، وذلك من فتح الله له باب المكالمة بينه وبينه من باب الولاية لا من باب الرسالة والنبوة فإنه ختم بسيدنا محمد r ولا مزاحمة ، فمن أنكر مكالمة الله بما هو وهجر حقيقة الحال فليس كذلك ووقائع الأولياء تفسر ذلك
قال بعض الأولياء : وقع لي مشاهدة تجل إلهي فقلت للحق يا رب بم نلت هذا الخير الذي أنا فيه ؟ فقال لي بمحبتك لعبدي هذا يعني شيخه ، فقلت له وبم نال عبدك هذا ما نال ؟ قال : بمتابعته رسولي وزادني الحق من عنده بلا سؤال مني : ورسولي نال ذلك برحمتي
واجتمع بعض الأولياء ، المقربين في وقتنا هذا بالنبي r . فقال له r ما لكم تزهدون في كلامي ومجالستي . فقال له : من يزهد في كلامك ومجالستك يا رسول الله ؟ قال مجالسة فلان هي مجالستي وكلامه هو كلامي . يعني بذلك بعض المحققين به والمنصفين من ورثته في عصرنا هذا ، وهذا هو الخير الجسيم الذي لا خير مثله فإن الله يقول : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)
قال الله عز وجل : (فإن مع العسر يسرا) أي لما جاهدت فينا وأنت خلق أوصلناك إلينا وجعلناك حقا ، فخرجت من عسر المخلوقية وسجنها إلى يسر الربوبية وإطلاقها
قال العارف بالله تعالى سيدي الشيخ صالح الجعفري : أي إلى التسليم لله تعالى أ هـ
وفي قوله تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) أي سبل جميع أسمائنا فيدخلون علينا من كل باب ، وأنت سيدهم المحيط بهم كلهم
قال الله عز وجل : (فإذا فرغت فانصب)
المعنى الأول : فإذا فرغت عمن سواه بأن فرغ به قلبك عن الأغيار فاذكرنا ناصباً نفسك منصباً لها في طلبنا ، إذ لا يصح في العرف أن يجعل الخل في الإناء المملوء زيتاً حتى يفرغ وينظف فإنه يفسد كقوله تعالى : (واذكر ربك إذا نسيت) أي نسيت غيره
والمعنى الثاني : فإذا فرغت من تجل أشهدناكه بأن شربته ذاتك وتذوقت ما فوقه فانصب مهيئاً لطلب ذلك الفوق ، فإن تجلياتنا متراكمة عليك تراكم أمواج البحر فلا تنفصل ، فنحن مفيضون عليك على الدوام ولا يقطع عنك أبدا فكن متلقياً سرمدا
وقوله : (وإلى ربك فارغب) أي لا تقنع فإن القناعة من الله حرمان بخلاف الدنيا فهي محمودة بل كن مشتاقا إلى جمالنا وتجليات كمالنا دائما أبدا سرمدا والتعبير بـ (إلى) بأ، الحق لا نهاية له ولا غاية لمجموعة ما حصل للعبد منه فهو بالنسبة إلى ما لم يحصل شئ تافه يسير ، وكأنه الآن ذاهب إليه لم يكن في شئ من تجلياته (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) وهو يقول أي إبراهيم (إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
فأكابر الرسل والأنبياء والأولياء كلهم كأنهم لم يحصلوا شيئاً بالنسبة إلى ما عند الله من المشاهدة العقلية ، فالحق لا يتناهي ، وهم لا يروون ، إنما يزيدهم ما وجدوه عطشاً وهياماً
قال بعض الأولياء في عصر أبي يزيد : شربت كأساً لا أرتوي بعدها أبدا
فسمع ذلك أبو يزيد فقال : هنا من يحثو بحار الكون كلها وهو فاتح فاه ويستزيد
وفي ذلك قيل :
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب وما روينا
وتبارك وتعالى الله رب العالمين ، وهذا بعض الكلام على هذه السورة العظيمة ، والله الفتاح ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله
انتهى
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
سبب نزول هذه السورة هو انحباس الوحي وقول المشركين إن محمداً قلاه ربه كما حرر في أسباب النزول
(والضحى) : ها هنا هو النبي محمد r وإنما سماه الله ضحى لأنه خلق من نوره تعالى كما جاء إن الله تعالى قبض قبضة من نوره فقال لها كوني محمداً فكانت والضحى هو ارتفاع الشمس عن القامة وهو فرد من أفراد النور لأ، النور يكون أنواعاً مختلفة وهذا منهما
وإنما اختار هذا الفرد من بين الأنوار لأن وقت الضحى هو أشرف حالات الشمس التي تكون عليها من السناء والصفاء والاستنارة ، وبين النبي وبين الشمس مناسبة ظاهرة من حيث إن الله تعالى جعل الشمس سراجاً وجعل النبي r سراجاً فقال تعالى جل جلاله في ذلك : (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)
فلما كان بينه r وبين هذه هذا الاتصال بشهادة القرآن أطلق عليه أشرف حالاتها وأجل صفاتها قال جل وعلا (والليل إذا سجى) قال أرضاه الله تعالى في عطف الليل على والضحى إشارة إلى الإسراء ، وارتفاع النبي r بأنه مخلوق من نوره أتبعه بتذكيره أمر الإسراء والقرب والوصال
والسر في القسم بهذين الأمرين أن يكون القسم في نفسه دليلا وبرهانا على المقسم عليه وهو قوله تعالى : (ما ودعك ربك وما قلى) وذلك أن من كان مخلوقا من نور حبيبه فهو بمنزلة الجزء منه وقد وقع بينه وبينه من القرب والوصول ما لم يقع لغيره من ابناء جنسه ، وأنه يبعد كل البعد أن يلقي وأن يهجر لا لذنب ولا لسبب فمعنى هذا القسم في نفسه بشارة للنبي r وتبيين وتأمين وهذا من مخزون الأسرار (فتبارك الله أحسن الخالقين)
ثم قال الله تعالى : (وللآخرة خير لك من الأولى) قال الشيخ أرضاه الله : الآخرة هنا صفة للحال الآخرة من حالة الوحي وهي الواقعة قبل الانقطاع
وذلك لأن العلة والحكمة في انحباس الوحي هي التعطش له والترغيب فيه لأننا بخبر ما كثر وتوالي من المحسوسات إذا لم يمل فأقل أحواله أنه لا يطلب أي لا تتشوق إليه النفوس ، وما جاء بعد فقده كان له من اللذة والحلاوة ما ليس في الأول وتلك مشاهدة بشهادة الوجدان
وقال جل ذكره : (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
قال الشيخ أرضاه الله تعالى : قيل إن هذه الآية أجرى آية في القرآن ، وكذلك قال النبي r ، قال : (أرضي وواحد من أمتي في النار) وكلام النبي من المعلوم أنه صدق لا يمكن تخلف مخبره وكلام الله تعالى كذلك
والحاصل أنه لا يرضى الله تعالى إلا لخروج جميع الأمة ورضاه واقع قطعاً ، وإذا أردت أن تبرزه بالبرهان العقلي وتصوره قياساً منطقياً كان هكذا : خروج الأمة من النار يرضى النبي r ، ورضي النبي r لا محالة ، وهذا من الشكل الأول
ودليل الأول : قوله r : لا أرضى
ودليل الثاني : قوله تعالى : (فترضى) ينتج من هذا خروج جميع الأمة من النار واقع لا محالة
قال تعالى (ألم يجدك يتميا فأوى)
قال سيدي أحمد بن إدريس رضي الله تعالى عنه : اليتيم هنا هو الذي لا نظير له على حد قول البوصيرى
حبذا عقد سؤدد وفخار أنت في اليتيمة العصماء
وإنما كان يتيما بهذا المعنى لثبوت المزايا السابقة من بين أفراد جنسه من خلقه من نور الحق ورفعه إليه ودنوه في الظاهر والله تعالى أعلم وأكرم
إن معنى قوله : يجدك على هذا يوجدك من الإيجاد لا من الوجود أي ألم يخلقك فرداً بلا نظير (فأوى) الفاء للسببية خلقك من نوره واتصالك به آواك إليه أي ردك إليه فأنت منه إليك
ثم قال تعالى : (ووجدك ضالا فهدى)
ضلال النبي عليه الصلاة والسلام عن قدر نفسه ، وحيرته في معرفة خلقه وعنصره (فهدى) أي هداك للمعرفة بنفسك وهذا من أعظم الهدى ، لأن الشخص إذا جهل قدر نفسه فربما وضعها حيث يستحق الرقع ، أو رفعها حيث يستحق الوضع فيترتب عليه مفاسد لا تخفى ، وإذا عرف قدرها تصرف فيها بحسب المراد لمولاه (ووجدك عائلا) أي فقيرا إليه تعالى (فأغنى) أي أغناك به تعالى
(فأما اليتيم فلا تقهر) لما ذكر اليتيم سابقاً ناسب أن يرشد نبيه إلى التخلق مع اليتامى بما تخلق الله تعالى به معه
(وأما السائل) أي السائل عنا والمتعرف برحمتنا وفضلنا (فلا تنهر) أي فلا تقنطه ولا تيئسه بمعنى أنك رغبت فينا فنلت فضلنا
(وأما بنعمة ربك فحدث) شوقهم إلينا وأخبرهم عنا وعن أصلك الذي هو أصلك لعلهم يأنفون من الميل إلى حضيض السوي ، ويرفعون رؤوسهم إلى حضرة جمالنا فيميلون إلينا ميل الفرع إلى أصله ، فيعشقوننا ، وحب الوطن من الإيمان ، ولا وطن لقبضته النورية التي قال لها كوني محمداً ، وخلق أجسامهم بيديه وما أرسل الله الرسل إلا ليحببوا عباد الله في الله تعالى ويحببونه فيهم ويرغبونهم فيما يحبهم الله عليه من الأعمال والأخلاق ويذكرونهم بأيادي الله عندهم وصنائعه لديهم ، ويشفعون لدى الله فيهم ليقبلهم ، كهيئة المصلح بين العبد وسيده سواء بسواء ولا يوقفونهم مع الخوف منه ، لأنه لا يخاف المرء إلا من عدوه ، وما هناك إلى الحبيب ، بل يحذرونهم من موجب غضبه بقدر ما تمس الحاجة إليه كوضع الملح في الطعام لا غيره ، عما قليل تزجره ولكن إذا أعطيته المزجر فليكن بقدر ما يعطي الطعام من الملح ؛ لأن الخائف كثير التلفت ، والمحب يجد السير وهو سباق وفي المثل : الخائف سيار والمحب طيار ، وخوف العبودية للربوبية لازم لا ينفك وهو وحده كاف لمن عقل والله تعالى الموفق وعليه التكلان
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ألم نشرح
(ألم نشرح لك صدرك) قال سيدي أحمد بن إدريس رضي الله تعالى عنه : هذه السورة عظيمة جدا وهي وسورة الضحى سورتا النبي r
وقوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) ألم للتقرير وثبوت نعمة الشرح التي أهى أعظم نعمة وذلك من وجهين :
الأول : إيتاؤه إياها
والثاني : ابتداء من الحق بلا سبق طلب منك ، ففرق بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام حيث لم يعطه ذلك إلا بعد طلب بقوله : (رب اشرح لي صدري) فهو يقول : غيرك لم يعط إلا بعد طلب ، وأنت ابتدأتك بالعطاء اعتناء بك ، والشرح يطلق على التوسيع وعلى البيان
فعلى الأول : ألم نوسع لك صدرك بنورنا حتى وسعنا ، وفي الحديث القدسي (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الورع الموقن) ولا عبد مؤمن اتقى وأنقى وأورع منه r وعلى الثاني : ألم نبين لك حقيقتك أي بقولنا : (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) فأبنا – أي أظهرنا – لك أن حقيقتك هي حقيقتنا وعنصرك هو نورنا ، والصدر أيضاً يطلق على القلب وهو المناسب للشرح بمعنى التوسيع ، ويكون مصدر أصدر وعليه : ألم نبين لك أن صدروك أي بروزك من عندنا وقبضة من نورنا فقلنا لها كوني محمداً فكانت ، وإذا عرفت ذلك عرفت نفسك ، ومن أين أنت ومن أين أصلك وحينئذ فلا أصل . أأصل منك . ولا أشرف لكونك من نور الله ليس غيره ، فلا أعظم من الله ولا أعظم ممن هو منه نوره ، وهنا معنى غدق عبق يبعد عن العقل ولا يأتي به اللسان إلا أن يفتح الله الباب حين يذاق من حضرة الوهاب وإلا فلا عبارة تبلغه كما هو
وقوله عز وجل (ووضعنا عنك وزرك) الوزر : الحمل ، ومنه (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) والمراد به ما كان يقاسيه عند نزول الوحي عليه في ابتداء الأمر فقد كان r يرغو عند نزول الوحي عليه كما يرغو البعير لثقل الوحي عليه كمال قال الله تعالى (إنا سنقلي عليك قولا ثقيلا) وقوله (الذي أنقض ظهرك) أي أثقله وأظهر ذاته كلها لكونها كانت في ضعف المخلوقين فتثقلها الأشياء ، فإن العبد إذا كان بنفسه كان ضعيفاً كائنا ما كان ، وفي الحديث المرفوع من دعائه r (فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وعجز) أو كمال قال
فهو يعني بذلك من حيث مخلوقيته ، وأما إذا كان بربه فهو قوي وهو لتحققه بالتقوى به سبحانه وسريان القوة الإلهية فيه حينئذ يتلقى من الله بالله وتلقيه به ، والمعنى زالت مخلوقيتك بالرجوع إلى أصلك الأول الذي هو النور الإلهي ، ولما ذهبت ظلمة المخلوقية ذهب ما يترتب عليها من الكلف وجميع لوازمها
وقوله عز وجل : (ورفعنا لك ذكرك) أي بقولنا (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) لا كما قال بعض المفسرين : لا أذكر إلا وتذكر معي ، فإنه معنى هزيل ضعيف جدا بالنسبة لما ذكرنا من أن المراد عين ذكر الله
وقوله : (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) أي الذين يرونك إنما يرون الله وقال r : " من رأى الحق " والحق هو الله . قال الشيخ صالح الجعفري :/ والمعنى فكأنما رأى الحق – أي رأى صورتي الحقيقية التي خلقني الله عليها لأن الشيطان لا يتمثل بي – أ هـ
ومن أعظم النعم على هذه الأمة قوله r : (من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) وأولياء الله تعالى من أمته يرونه دائماً ، والناس يرونهم ، فقد حصل للعامة الخير الكثير برؤية من يراه ، كما قيل : (لعلي أراكم أو أرى من يراكم) . بل منهم من يتصبن بصابون طاعته الشرعية ولم يتصبغ بلونه حتى يصير هو هو ، وذلك من فتح الله له باب المكالمة بينه وبينه من باب الولاية لا من باب الرسالة والنبوة فإنه ختم بسيدنا محمد r ولا مزاحمة ، فمن أنكر مكالمة الله بما هو وهجر حقيقة الحال فليس كذلك ووقائع الأولياء تفسر ذلك
قال بعض الأولياء : وقع لي مشاهدة تجل إلهي فقلت للحق يا رب بم نلت هذا الخير الذي أنا فيه ؟ فقال لي بمحبتك لعبدي هذا يعني شيخه ، فقلت له وبم نال عبدك هذا ما نال ؟ قال : بمتابعته رسولي وزادني الحق من عنده بلا سؤال مني : ورسولي نال ذلك برحمتي
واجتمع بعض الأولياء ، المقربين في وقتنا هذا بالنبي r . فقال له r ما لكم تزهدون في كلامي ومجالستي . فقال له : من يزهد في كلامك ومجالستك يا رسول الله ؟ قال مجالسة فلان هي مجالستي وكلامه هو كلامي . يعني بذلك بعض المحققين به والمنصفين من ورثته في عصرنا هذا ، وهذا هو الخير الجسيم الذي لا خير مثله فإن الله يقول : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)
قال الله عز وجل : (فإن مع العسر يسرا) أي لما جاهدت فينا وأنت خلق أوصلناك إلينا وجعلناك حقا ، فخرجت من عسر المخلوقية وسجنها إلى يسر الربوبية وإطلاقها
قال العارف بالله تعالى سيدي الشيخ صالح الجعفري : أي إلى التسليم لله تعالى أ هـ
وفي قوله تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) أي سبل جميع أسمائنا فيدخلون علينا من كل باب ، وأنت سيدهم المحيط بهم كلهم
قال الله عز وجل : (فإذا فرغت فانصب)
المعنى الأول : فإذا فرغت عمن سواه بأن فرغ به قلبك عن الأغيار فاذكرنا ناصباً نفسك منصباً لها في طلبنا ، إذ لا يصح في العرف أن يجعل الخل في الإناء المملوء زيتاً حتى يفرغ وينظف فإنه يفسد كقوله تعالى : (واذكر ربك إذا نسيت) أي نسيت غيره
والمعنى الثاني : فإذا فرغت من تجل أشهدناكه بأن شربته ذاتك وتذوقت ما فوقه فانصب مهيئاً لطلب ذلك الفوق ، فإن تجلياتنا متراكمة عليك تراكم أمواج البحر فلا تنفصل ، فنحن مفيضون عليك على الدوام ولا يقطع عنك أبدا فكن متلقياً سرمدا
وقوله : (وإلى ربك فارغب) أي لا تقنع فإن القناعة من الله حرمان بخلاف الدنيا فهي محمودة بل كن مشتاقا إلى جمالنا وتجليات كمالنا دائما أبدا سرمدا والتعبير بـ (إلى) بأ، الحق لا نهاية له ولا غاية لمجموعة ما حصل للعبد منه فهو بالنسبة إلى ما لم يحصل شئ تافه يسير ، وكأنه الآن ذاهب إليه لم يكن في شئ من تجلياته (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) وهو يقول أي إبراهيم (إني ذاهب إلى ربي سيهدين)
فأكابر الرسل والأنبياء والأولياء كلهم كأنهم لم يحصلوا شيئاً بالنسبة إلى ما عند الله من المشاهدة العقلية ، فالحق لا يتناهي ، وهم لا يروون ، إنما يزيدهم ما وجدوه عطشاً وهياماً
قال بعض الأولياء في عصر أبي يزيد : شربت كأساً لا أرتوي بعدها أبدا
فسمع ذلك أبو يزيد فقال : هنا من يحثو بحار الكون كلها وهو فاتح فاه ويستزيد
وفي ذلك قيل :
شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب وما روينا
وتبارك وتعالى الله رب العالمين ، وهذا بعض الكلام على هذه السورة العظيمة ، والله الفتاح ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله
انتهى