السراج الاسنوى



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

السراج الاسنوى

السراج الاسنوى

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اسلامي صوفي اوراد وادعييه واحزاب للصوفيه


    كتاب الفيوضات الربانية لسيدى أحمد بن ادريس كاملا للقراءة الفصل الخامس : المصلين

    avatar
    الامير شهيب


    عدد المساهمات : 9
    تاريخ التسجيل : 11/09/2010

    كتاب الفيوضات الربانية لسيدى أحمد بن ادريس كاملا للقراءة الفصل الخامس : المصلين   Empty كتاب الفيوضات الربانية لسيدى أحمد بن ادريس كاملا للقراءة الفصل الخامس : المصلين

    مُساهمة من طرف الامير شهيب الأحد سبتمبر 12, 2010 5:27 am

    الفصل الخامس : المصلين

    وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) إلى آخرها ؟

    فأجاب : هم الذين يصلون وقلوبهم مشتغلة بغير الله سبحانه وتعالى ، انظر إلى المصلي إذا توجه إلى غير الكعبة هل تصح صلاته ؟ كذلك إذا توجه بقلبه إلى غير الله تعالى ، بل توجهه بقلبه أحق من أن يتوجه بقالبه إلى الكعبة فوصفهم سبحانه وتعالى بأنهم عن صلاتهم ساهون (الذين هم يراءون) يعني يصلون بقوالبهم لا بقلوبهم يراءون والرياء هو الشرك ، نسأل الله السلامة والعافية (ويمنعون الماعون) وهو الإناء ، يعني أنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق قلبه إناء سبحانه وتعالى فمنعه وشغله بغيره وكذلك جميع الذات لم يخلقها الله تعالى إلا ماعونا : أي إناء لذكره وعبادته ، بدليل قوله تعالى (وما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون) وقوله تعالى لموسى (واصطنعتك لنفسي) فإذا منعتها مما خلق له وشغلتها بغير ما خلقت له فأنت ممن يمنع الماعون ، وما فسر المفسرون في المعاون داخل تحت هذا المعنى فإن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما اشتد حبه ليوسف والقلب لا يسع إلا الواحد فرقه عنه تأديباً له ، ثم خفي عليه وهو في الجب بالقرب منه لما أراد أن يفرقه عنه ، وحين أراد اتصاله به وجد ريحه من مصر إلى كنعان ، فسبحان القادر لا إله إلا هو . كذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما عظم في قلبه حب إسماعيل وذلك لكونه بشر به وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر فبلغ به الحب إلى الغاية ، فبلاه الرب جل وعلا بذلك البلاء العظيم وهو ذبحه له فسلم غاية التسليم ثم فداه الله سبحانه بذبح عظيم ، وهذا كذلك لكون القلب لا يسع إلا الواحد ، مع كونه قد عظم حب إسماعيل فابتلاه بذلك ليخلي قلبه له جل وعلا ، والذبيح إسماعيل بلا شك ، لا كما قيل هو اسحق لثلاثة أدلة :

    الأول : أن الله سبحانه وتعالى ذكر قصة الذبيح إلى آخرها ثم قال : (وبشرناه بإسحاق) وذلك الترتيب في كتاب الله تعالى تقتضي الحكمة فيه ذلك

    الثاني : أن اسحق لم ينقل أحد ولم يسمع أنه سكن مكة بخلاف إسماعيل ، فالنص القرآني (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) والذبح وقع بمنى

    الثالث : أ، الله سبحانه وتعالى بشر إبراهيم بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب في حالة واحدة ، ولو كان اسحق لما صح الابتلاء وهو يعلم أن في صلبه يعقوب كما بشره الله به

    وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)

    قال : العفو : هو أن تعفوا عمن أسماء إليك ، وإذا كنت كذلك فقد اتصفت بصفة من صفات الله تعالى ، فحق عليه أن يعاملك بما اتصفت به (سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) لا كما قيل : من أن العفو وهو ما فضل من القوت ، بل قال الله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) ومنه ذلك العفو لأنه أحب ما يكون إلى الإنسان سيما عند احتياجه إليه في يوم القيامة ، والقرآن يخدم بعضه بعضا

    *********

    وقال رضي الله تعالى عنه : إن (كان) إذا دخلت على اسم من أسماء الله تعالى فإن عملت في الاسم الرفع وفي الخبر النصب فلا تسمى ناقصة تأدباً ، إنما يقال لها الحرف الرافع للاسم الناصب للخبر ، وإذا لم تعمل سميت التامة ، وكذلك الذي تسميه النحاة زائداً لا يقال له في القرآن زائداً ، بل تحته معنى نحو قوله تعالى (حتى إذا ما جاءوها) بقيت ما هنا النافية لتؤدي معنى ، وهو أن يبقى في الإثبات شم من النفي لأنهم ما جاءوها هم باختيارهم ، إنما سيقوا إليها (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) فبقيت النافية لتؤدي هذا المعنى

    وكذلك قولهم في قوله تعالى : (فأتوا بسورة من مثله) إن من هنا زائدة ، وليس كذلك تعالى الله ، بل لا يستقيم المعنى إلا بها ، لأن قوله (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) أي من مثل عبدنا ، فالضمير راجع إلى عبدنا ، ولا يصح المعنى إلا بها ، فتأمل

    وكذلك قوله تعالى (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) فهي وإن كان المعنى للثبوت لكن أتى بالنافية هنا ليبقى شم وهو يؤدي معنى أنهم غير واثقين بالتقوى منهم ، وذلك شأن المؤمن ، فإنه ورد في حديث بعض السلف أنه عرف كذا عدداً من الصحابة كلهم يخشى على نفسه النفاق ، ذكره البخاري ، فتأمل فائدة الإتيان بما

    ************

    وقال رضي الله تعالى عنه : في قول الله سبحانه وتعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أتى سبحانه وتعالى بلفظ أقيموا ولم يقل صلوا ، وذلك لأن الصلاة كالأعضاء وسائر الجسد ، والخشوع روحها ، فإذا حصل الخشوع والحضور مع الحق جل وعلا صارت قائمة لأن الشئ لا يقوم إلا إذا كان له روح ، وأما إذا لم يكن له روح فهو ملقى هناك مرمى لا روح له يقوم به ، بل لا يقدر على الحركة ، وقوله : (آتوا الزكاة) ومثله قوله (مالك يوم الدين) (والأمر يومئذ لله) مع أنه جل وعلا ملك الآخرة والأولى وله الأمر في الابتداء والانتهاء ، لكنهم لما ادعوا أن لهم في الدنيا ملكا ولهم فيها أمرا سلم لهم على دعواهم سبحانه ما ألطفه تبارك وتعالى ، ساجلهم سبحانه وتعالى على دعواهم لأنهم ادعوا أن لهم في الدنيا ملكاً ولهم فيها أمراً سلم لهم على دعواهم سبحانه ما ألطفه تبارك وتعالى ، ساجلهم الله سبحانه وتعالى على دعواهم لأنهم ادعوا أن لهم مالاً فقال سلمنا ، وعليكم منه الزكاة وهو العشر أو نصف العشر أو ربع العشر ، مع أنه قد قال سبحانه وتعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ولهذا لم يملك الأنبياء شيئاً لعلمهم أن ليس لهم شئ . فما في أيديهم جميعه لله ، هم وغيرهم فيه سواء

    قيل إن أحمد بن حنبل والشافعي كانا قاعدين . إذ مر شيبان الراعي فقال أحمد بن حنبل إني أريد أن أسأل شيبان سؤالاً ، فقال له الشافعي : لا تفعل قال : لابد ، قال : دونك إياه ، فقال : أحمد بن حنبل : يا شيبان في كم الزكاة من الغنم ؟ فقال : على مذهبكم أم على مذهبنا ؟ فقال : أو هما مذهبان ؟ قال : نعم ، قال أفتني بهما ، فقال : أما على مذهبكم ففي الأربعين شاة شاة ، وأما على مذهبنا فلا يملك العبد مع سيده شيئاً ، فالجميع حق الله تعالى ؛ وسأله أيضاً عن المصلي إذا سها في الصلاة بزيادة أو نقصان بم يصلحها ؟ فقال : على مذهبنا أو على مذهبكم فقال أجبني على كلا المذهبين فقال : على مذهبكم يجبر بالسجود ، وعلى مذهبنا هذا قلب غافل يجب تأديبه ، فخر أحمد مغشياً عليه

    ******************

    وقال رضي الله تعالى عنه : كل مقدم في القرآن فهو الأهم بدليل قول رسول الله r لما رقى الصفا : أبدأ بما بدأ الله به (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فإن تأخر الأهم فلنكته

    وقال رضي الله تعالى عنه : في العناية من الله سبحانه ببعض عبيده لما قال الكهنة والمنجمون لفرعون : إنه يكون خراب ملكك على يد ولد من بني إسرائيل فأمر بذبح الأبناء ، فلما ولدت أم موسى ألقته في البحر خوفاً عليه من الذبح ، فالتقطته امرأة فرعون وقالت له (قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) فقال فرعون : قرة عين لك ، فلو سكت لكان قرة عين لهما ، ثم لما أخذته امرأة فرعون أبي أن يقبل ثدي مرضعة .

    ذلك قوله سبحانه وتعالى : (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) فرده الله إلى أمه وكانت نفقتها عليه ، وتربية موسى على يد فرعون . وأما السامري فلما خافت أمه عليه الذبح ألقته في كهف في جبل فتولى جبريل عليه السلام تربيته وصار بعد كافرا ، وفي ذلك يقول الشاعر :

    فموسى الذي رباه جبريل كافر

    وموسى الذي رباه فرعون مرسل

    كذلك سحرة فرعون جاءوا في أول النهار يريدون أن يدحضوا حجة الله بالباطل ، وهذا شر أي شر ، فما غربت شمس ذلك اليوم إلا وقد صاروا في أعلى مراتب الإيمان ، فإنه لما بعث فرعون في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين)

    أجرى الحق سبحانه وتعالى ذلك على لسان فرعون هو أنه واقع لهم الأجر من ربهم ، وكانوا عنده من المقربين (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون)

    فلما رأى موسى عليه الصلاة والسلام ذلك خاف كما في آية طه (فأوجس في نفسه خيفة موسى) وذلك الخوف ليس هو من ذلك السحر وهو كون الحبال والعصي صارت حيات ، ولكن خاف أن يلتبس الأمر على من لم يعرف ، فقال سبحانه وتعالى (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)

    ليس أنها ردت الأشياء التي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى ، وهي الحبال والعصي ، إذ لو كان كذلك لكان لهم مدخل في قدح الحجة بأن يقولوا : سحره أعظم من سحرنا فالتقمت عصاه حبالنا وعصينا ، وكما أن بعض أنواع الحيوانات يأكل بعضها بعضاً ، فإن الحوت الكبير يأكل الصغير وكذلك الطير ولكنها أبطلت السحر

    فإذا العصى والحبال ملقاة هناك لم تتحرك ، بل حبال وعصي على أصلها ، فلم يبق لهم عذر ، ولحقهم الخزي والفضيحة على رؤوس الأشهاد لما صارت كذلك ، فما بقي إلا أن ألقى السحرة سجداً : أي ألقاهم الله سبحانه وتعالى (قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا) أي : على الذي فطرنا وقدم البينات هنا على الذي فطرنا لكونها السبب (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) ولم يقولوا والآخرة خير وأبقى ، أو والجنة خير وأبقى ، وذلك لقوة إيمانهم قد تعلقت قلوبهم بالله سبحانه وتعالى

    فانظر كيف جذبتهم العناية في أسرع وقت ، اللهم عناية من عندك يا رب العالمين

    وسئل رضي الله تعالى عنه : عن (التوكل) فقال : قال الله سبحانه وتعالى (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يسسهم سوء) وذلك أنهم علموا أن النصر لا يكون إلا من الله تعالى (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن خذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) فوكلوه وفوضوا ولم يعترضوا ، لأن الموكل لا يتعرض على الوكيل إلا لأحد أمرين : إما أن يكون متهما للوكيل بنوع خيانة ، أو أنه ليس عالماً بالمضار من العدو فيدفعها ، أو غير عالم بجلب المنافع لموكله فيجلبها ، وكل ذلك غير مجوز على الله ، تعالى الله علوا كبيرا ، فلما صدقت الوكالة له جل وعلا لم يتكلوا على كثرة ولا اكترثوا من قلة فنجاهم من عدوهم ونصرهم عليهم

    وفي يوم حنين يقول الله تعالى فيهم (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)

    وذلك لأنه أصابهم لأنهم اتكلوا على أنفسهم فوكلوا إليها فانهزموا ولم يبق إلا الرسول r ، فعمت المصيبة جميع الصحابة ، ولم يتكلم بتلك الكلمة إلا البعض وهي قولهم : لن نغلب اليوم من قلة ، فانظر إلى هذه المصيبة أصابتهم من الله سبحانه وتعالى ، لكنها في الحقيقة من أنفسهم (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) ثم انظر إلى الحسنة ما تكون إلا من عند الله ابتداء ، فإنك إذا فعلت الحسنة فمن أقدرك عليها ؟

    لك الحمد يا ربي على كل نعمة

    ومن أعظم النعماء قولي لك الحمد

    وقال رضي الله تعالى عنه : من لطف الله تعالى وحسن خطابه لعبيده يقول لهم في الجنة (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) وجميع ما أسلفوا هو نعمة الله سبحانه وتعالى ، لكن لما كان الخطاب بأنه مقابل لما أسلفوا ارتفع المن ، وكأنهم هم الذين جلبوا لنفوسهم تلك النعمة بما أسلفوا ، وذلك من تمام نعمته سبحانه وتعالى ، فإن الإنسان إذا حصلت له نعمة يرى أن سببها سعيه عظمت لذاتها عنده ، فما أمتن سبحانه وتعالى عليهم في هذا ، والمنة له ، فما أكرم هذا الرب تبارك وتعالى ، فذلك قوله سبحانه وتعالى (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) مع أن المعنى غير مقطوع ، بل على حاله ، والله تعالى أعلم .

    وقال رضي الله تعالى عنه : لما كان يوم بدر نصر الله سبحانه وتعالى رسول الله r وجنوده ، وشاور النبي r أصحابه في أمر الأسرى ، لأن الله تعالى أمره بقوله (وشاورهم في الأمر) فاجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أخذ الفداء إلا عمر رضي الله تعالى عنه فإنه أشار بقتلهم ، فعاتب الله رسول الله r بقوله (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)

    والنبي r ما عمل بمشورتهم إلا بأمر الله سبحانه وتعالى حيث قال : (وشاورهم في الأمر) وقد أجمع رأيهم على الفداء إلا عمر رضي الله تعالى عنه ، ثم هو مأمور بالعفو (فاعف عنهم واصفح) وهو من خلقه عليه الصلاة والسلام المجبول عليه ، والله سبحانه أمسك الوحي في تلك الحالة ليقضي أمره ، ثم بعد نزلت أية العتاب ، ثم بعدها (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) والكتاب الذي سبق هو قوله تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد ، ثم النتيجة قوله تعالى لأهل بدر (اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) ثم لما سبق في قضائه من سعادة العباس وعقيل ومن أسلم منهم ، فلما كملت آية العتاب قال تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم) تابعهم سبحانه وتعالى على حسب مرادهم لأن الغنائم فيما سبق كانت تنزل نار من السماء تأخذها ، فأحلها الله لهذه الأمة من ذلك الحين ، والغنائم أحلت لهذه الأمة ، إن الله جعل زينته والطيبات من الرزق في الدنيا ، وفي يوم القيامة للذين آمنوا ، فاغتصب الكفار عليهم من التي في الدنيا ، والمغتصب عليه له أن يأخذ حقه أينما وجد ، إما بتسلق أو جهارا أو خفية ، كذلك ما اغتصبه الكفار على الذين آمنوا فلهم أن يأخذوه بأي وجه هو لمن سبق إليه ، وأما ما كان في يوم القيامة فهي للذين آمنوا لا يقدر عليها غاصب ولا يشاركهم فيها مشارك . قال سبحانه وتعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) فهي لهم في الدنيا لا لغيرهم . ثم قال (خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)

    وسئل رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

    فأجاب بما معناه : (والذين آمنوا) صدقوا فاتصفوا بصفاتنا وخلقوا بأخلاقنا ، فإن الله سبحانه هو المؤمن (وعملوا الصالحات) ، التي بلغوا بها إلى مقام " كنت سمعه وبصره " إلى آخره فإنا جعلنا فيهم قوة وقدرة على عمل الصالحات التي يبلغون بها إلى هذا المقام ، فإنا لا نكلف نفساً إلى وسعها ، فلم يأمرهم النبي r " تخلقوا بأخلاق الله " إلا وهو يعلم أنه أقدرهم على ذلك

    وفي هذا تلميح إلى أن الله تعالى خلق أدم على صورته – أي صورته التي كان بها في الحياة الدنيا وليس المقصود صورة الحق سبحانه وتعالى – فمن بلغ هذا المقام (أولئك أصحاب الجنة) والجنة جنتان : جنة المعارف ، وجنة الزخارف لمن كان من أصحاب جنة المعارف (هم فيها خالدون) في الدنيا والآخرة ، جعلنا الله منهم بفضله آمين

    وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قول الله تعالى : (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)

    فأجاب بما معناه : أي أنها تعبد الله تعالى مأمورة بذلك ، قال تعالى : (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وقال تعالى : (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون)

    فهي مخاطبة بأمرين : أحدهما عبادة الله ، والآخر تسخرها للإنسان ، فإنه ذللها سبحانه لبني آدم ، وجعل منها متوحشاً كالسبع ليعرف ما قد ذلل له منها ، فهي أمم أمثالنا تعبد الله وتوحده وتمجده وكذلك الجمادات فإنها تعبد الله وتسبحه

    قال الله تبارك وتعالى : (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) وقال سبحانه وتعالى في قصة داود عليه السلام (يا جبال أوبي معه)

    ففي الحديث : " إن الأرض تلبي إذا لبي الحاج إلى أن تنقطع من كل جهة ، والمؤذن يشهد له كل رطب ويابس إلى منتهى صوته " وهل في الأرض إلا رطب ويابس

    وقال رضي الله تعالى عنه : إن الحصى التي سبحت في كف رسول الله r هي كذلك في كل حالة ، وإنما هو كشف الحجاب عن مسامع الصحابة فسمعوها ، فكانت من خرق العادات ، وقوله تعالى : (إذا زلزلت الأرض زلزالها) إلى (يومئذ تحدث أخبارها) أي : تشهد للعباد وعليهم ، فكل بقعة تشهد بما صنع فيها العبد ولا تشهد بما شهدت به بقعة أخرى ، كالأذن لا تشهد بما رأته العين ، لأن ذوقها غير ذوق العين ، وكذلك سائر الأعضاء والجوارح ، فما من شئ في الدنيا إلا وهو شاهد بالتوحيد يسبح بحمد ربه

    وقال رضي الله تعالى عنه : سخر سبحانه وتعالى جميع ما في السماوات والأرض لبني آدم وهي جميعها ليست مفتقرة إلى ابن آدم أبداً ، وابن آدم مفتقر إلى جميع ما في السماوات والأرض ، فالله سبحانه وتعالى أعطى ابن آدم قبل سؤاله ، وإنما سؤاله بلسان الحال لا بلسان المقال ، فجميع ما سأل من كل ما هو مفتقر إليه قبل وجوده ، ثم خلقه سبحانه وتعالى وأوجد أرزاق المسخرات له فهو راس المخلوقات وسنامها ، ولولاه ما خلقت المخلوقات ، ولا دار الفلك

    فالشمس وجميع الكواكب في منفعته والدواب جميعها في منفعته ، وما توحش منها كذلك لأن بتوحشها يعرف قدر المسخرات ، وما نزل من السماء كذلك ، وجميع ما يخرج من الأرض والملائكة يستغفرون لهم ، فالإنسان يذنب والملائكة تنوب عنه ، فقسم سبحانه ذكر الملائكة بينه وبين ابن آدم قال : (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا)

    ثم زاد في كيفية استغفارهم ودعائهم لهم ، فقال سبحانه وتعالى على ألسنتهم : (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلماً) إلى قوله (وذلك هو الفوز العظيم)

    فهم يستغفرون للذين تابوا ، وهم يشفعون لمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، وأسجدهم له وهو في صلب أبيه ، فابن آدم له عند الله عز وجل هذا الشأن ، وخلق من أجله جميع المخلوقات فسخرها له وخلقها له وهو يعبد ما خلق من أجله ، ويعرض عمن خلق له ، فكيف هذا السقوط من الثريا إلى الحضيض ، نسألك اللهم عافيتك ، اللهم اشغلنا بعبادتك عن عبادة من سواك يا ارحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

    ثم الجمادات كالأحجار والأشجار والأرض جميعها تدعو لبني آدم ، وتستغفر لهم وتشهد لهم بالأعمال البر كتلبية الأرض إلى منتهاها للملبي بالحج ، وشهادة كل رطب ويابس للمؤذن إلى منتهى صوته ، وغير ذلك مما لا حصى ، فسبحان الكريم ما أكرمه على عبيده

    وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى : (ليس الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) فكرر لفظ اتقوا ثلاثاً ، ولفظ آمنوا ثلاثاً ، وقال في آخرها : وأحسنوا مرة واحدة : أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليس عليهم جناح فيما طعموا من الطيبات من الرزق ، ثم كلما طعموا زادهم إيماناً وتقوى ، وإذا كان الأكل للطيبات بالنية على تقوية الأعضاء للطاعة زادك إيماناً وتقوى : لأن الصحابة منهم من حرم الدسم ومنهم من حرم النكاح ليتفرغوا للعبادة

    ثم قال تعالى : (ثم اتقوا وأحسنوا) أي أن الإحسان مقارن للتقوى والإيمان

    وفي الحديث : " إنه نزل جبريل عليه السلام على رسوله r فقال : ما الإيمان ؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وتؤمن بالبعث قال : ما الإسلام ؟ قال : الإسلام : أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : ما الساعة ؟ قال : مال المسئول عنها بأعلم من السائل

    فإذا كان الإحسان مقارنا للإيمان والتقوى فقد صار ولياً فقد أحبه الله ، وإذا أحبه الله فقد صار سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به كما يليق بجلالة سبحانه وتعالى : (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وكيف يخافون ويحزنون ، وقد صار الحق منهم بهذه الصفة

    قال الشاعر :

    هم الذخر للملهوف والكنز والرجا

    ومنهم ينال الصب ما هو طامع

    بهم يهتدي للعين من ضل في العمى

    بهم يجذب العشاق والربع شاسع

    وقال رضي الله تعالى عنه : في قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) على حذف مضاف : أي أصحاب الكوثر ، وهم المؤمنون الذين هم أولاد النبي r كما في إحدى القراءات (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم)

    والكوثر و النهر الذي في الجنة ، عدد أقداحه عدد نجوم السماء : لأن الكفار قالوا : إن النبي r أبتر ، أي لا نسل له ، وإنه ينقطع ملكه ولا له بنون يقومون بملكه ، فنزلت (إنا أعطيناك الكوثر)

    أي أصحاب الكوثر قاموا بعده بحق الإسلام وقفوا فيه على آثاره إلى الآن ولله تعالى الحمد

    (فصل لربك وانحر) أي اجعل هذا القول في نحر أعدائك (إن شانئك هو الابتر) وأنجز الله سبحانه وتعالى قوله ، وهو أن لا يبقى الآن في الآفاق جميعاً ذرية لأبي لهب ولا لأبي جهل ، ولا لأحد ممن مات منهم وهو كافر

    وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله تعالى (فلا اقتحم العقبة) إن العقبة بلغة العرب : هي الجبل الوعر المسالك الذي لا يصعد إليه إلا بمشقة

    ثم قال : (وما أدراك ما العقبة) أي عقبة هي ؟ (فك رقبة) والرقبة هنا منكرة لتقتضي الشمول لكل رقبة محبوسة ، إما في دين فيقضي عنها فيفكها ، أو نفس وجب عليها القصاص فيكفها ، أو ضال يهديه فيفك رقبته من حبس الضلال أو غير ذلك

    ثم قال تعالى : (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) أي ذي جوع والمراد المطعم وهو الجائع وإن كان غيره شبعان (يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة اليتيم على قسمين

    أحدهما : الملتجئ إلى الله تعالى لا يصافي أحدا غيره ولا يصادق ولا يحب إلا الله ، أو في الله فهو يرى وجود أبويه وعدمهما على حد سواء ، وهذه أعلى رتبة ، فهو يتيم وإن بلغ سن الشيخوخة

    الثاني : اليتيم عن أبويه أو أحدهما ، ولا يكون يتيماً إلا ما دام لا يمكنه التكسب

    والمسكين على قسمين :

    الأول : هو المتمسكن إلى الله تعالى . أي الذي لا يسكن إلا إلى ربه فهو ملازم حضرته فلا يأنس إلا إليه ، وهذا هو الذي قال فيه الصادق المصدوق صلوات الله عليه وعلى آله : " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين " وهذا هو أعلى درجة

    الثاني : هو اللاصق بالتراب

    ثم قال تعالى : (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة) كان هذه من قوله " ثم كان من الذين آمنوا " تامة ، يعني تستغرق الزمان ماضياً وحالاً ومستقبلاً : أي بقي مؤمناً حتى مات كما قال تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) ولم يقل من عمل الحسنة ليكون معناها : من جاء يوم القيامة بالحسنة ولم تحبط ، ومن جاء بالسيئة ولم تمح

    وقال رضي الله تعالى عنه : (إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) قال : هذه الآية من المخوفات التخويف العظيم ، لأن (إنما) للحصر ، ومن ذا يكون متصفاً بهذه الصفة ؟! فإنه قيل لبعض الأولياء وهو الحسن البصري كيف تجد إيمانك ؟ فقال : أو من بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، وأما أني ممن ذكر الله (إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى آخرها فلا أدري ، والذكر هو باللسان والقلب ، والاعتبار بالعين لقوله تعالى Lالذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري) فهو ذكر هنا بالعين ، فإن الاعتبار في العالم ذكر وهو أعظم الذكر

    وقوله تعالى : (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) المراد الآيات القرآنية والعالمية ، أي إذا نظرت إلى مخلوقاته زادتك إيمانا ، لأنها آيات تتلى عليك ، قال تعالى : (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)

    وقال رضي الله تعالى عنه : (أفرأيتم ما تمنون) الإنسان يلقي منيه ولا يدري أين صار ، فيوكل الله به ملكا خلق من سر الخالق البارئ المصور يضعه في قرار مكين ، أي لم يخن في شئ منه بل يحفظه غاية الحفظ ، ثم يكون علقة أشد من النطفة ، فإذا هو لم يصل أجله يقول لا أنقله مضغة ، فيصير مضغة وهي أشد من علقة

    فيستأذن الملك ربه كذلك فيشق جل جلاله بصره وسمعه ويخلق فيه الأعضاء حتى يصير في الصورة الإنسانية فيبرز إلى الوجود وليس له عقل يعقل به ، ولا فهم يفهم به ، ولا نطق يتكلم به بما يريد ، فيجوع ويعطش وهو لا يحسن الكلام فيصيح

    وذلك الصياح يدعو به ربه دعوة مضطر فيجاب في الحال والسرعة فيوجد الله له اللبن في ثدي أمه ، حتى لو أنها أرادت أن تدفعه وترده ما أمكنها ، ولو أرادت وجوده قبل أن يولد المولود ما أمكنها ، فيا ليتنا كنا كذلك مجابين الدعوة في الحال ، ثم يوجده سبحانه وتعالى سائغاً ليس يحتاج إلى مضغ لكون الطفل بلا أسنان يمضغ بها

    ولا يحتاج إلى هضم لأنه معدته غير قوية على الهضم ثم يجد فيه الري والشبع ، فيستغني عن الماء والطعام لأنه لا يقدر أن يطلب عند عطشه ماء ، ولا عند جوعه طعاماً فيهديه إليه ويهوي إليه لا إلى عضو غيره

    ثم يلهمه المص على تلك الكيفية سبحانه وتعالى ، ثم لا يزال ينمو ولا ينظر عياناً لأن كل شئ إذا مددته بعد أن كان متحيزاً لابد أن تنظر لمدة تأثراً في طوله وعرضه ، وأما هذا النمو فهو في كل حالة لا يزال ينمو هو جملة وكان عضو من أعضائه وهو لا يدرك ثم يتولد معه التدبير ، وكلما زاد معه التدبير نزع الله الشفقة من قلب أبويه بقدر ذلك

    فإن أمه في أول الأمر لا تستطيع أن تفارقه ساعة ، ثم بعد ذلك قد تفارقه اليوم واليومين ، ثم قد تفارقه بعد أن يكمل تدبيره الزمان كله ، فلو لم يدبر له أمراً بل رضي بالله تعالى كفيلا كما كان أولا لكفاه كل مؤنة ، وتيسير ما هو موجود أهون من إيجاد ما هو معدوم باعتبار عقل الإنسان

    ألا ترى أنك قد تهتم بتيسير قوت يومك وهو موجود على ظهر الأرض ، وتيسيره أهون من إيجاد اللبن من العدم من بين فرث ودم ، حسبنا الله ونعم الوكيل

    وسئل رضي الله تعالى عنه : عن قوله تعالى (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن)

    فأجاب : الجهالة هنا هي أن يعمل السوء وهو جاهل بحق الله تعالى ، لا أنه جاهل أنه سوء ثم لما علمت بالله وعلمت أنه عندك حاضر لا يغيب ، وأ، السيئة الصغيرة في جناب من عصيته كبيرة وأي كبيرة ، وعلمت بطشه وصدقت وعده ووعيده وتبت من قريب ، تاب الله عليك ما لم تغرغر بالموت ، فإن تبت قبل أن تغرغر فقد تبت من قريب

    فأتى الله سبحانه بـ(على) في قوله (إنما التوبة على الله) أي وجبت لأنه لو قال من الله أو لله فلا تؤدي هذا المعنى ، ثم قال تعالى : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) فذلك لا ينفع

    ثم قال رضي الله عنه : واعلم أن الإنسان في كل حالة مخاطب بالموت ، قال تعالى (نحن قدرنا بينكم الموت) (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) قال النبي r " ما مددت بصري إلا وظننت الموت يبتدرني قبل أن يرتد إلى طرفي ، وما التقمت لقمة إلا وظننت الموت يبتدرني قبل أن أسوغها
    ) هذا أو معناه ، ومن هنا ارتفع حكم التسويف والأمل

    قال تعالى : (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل) وقال تعالى (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) الآية فالأمد والأمل بمعنى واحد ، وهو الذي يجوز أن يكون له فيه توبة ولا يتوب ولا يعلم أن الموت في كل حالة يطلبه لقول الصديق رضي الله تعالى عنه :

    كل امرئ مصبح في أهله

    والموت أدنى من شراك نعله

    وقال رجال لبعض الأولياء لما رأوه لا يتكلم معهم في خوضهم : لم لا تتكلم معنا إنا نحب حديثك ؟ فأجاب : الحالة التي تحب أن تكون عليها عند الممات كن عليها في جميع الحياة فانظر إلى هذه الكلمة التي تلحق بالمعجز ، لأنك إذا رأيت الأمير النافذة أوامره إذا قيل له تموت غدا هل يبقى من أمره ذلك : احبسوا فلانا ، قيدوا الفرس ، جهزوا الجيش ، أم ينتظر الموت ويرتقب له ويتهيأ له ، دائماً متذكراً لسيئاته ، قد يذهل عمن عنده ولا يتكلم بشئ مما جرت به عادة

    وكذلك غيره من أهل الصناعات والزراعة والتجارة إذا قيل له تموت غدا لا يشتغل بشئ من ذلك الذي هو فيه سابقاً، بل يشتغل بالتأهب للموت ، فانظر معنى هذه الكلمة

    وسئل رضي الله تعالى عنه عن قوله : (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) أي إن الأبرار لفي نعيم في الدين لأنهم هدى والهدى نور والنور وجود والوجود هو الله (وإن الفجار لفي جحيم) لأنهم في ضلال ، والضلال ظلمات ، والظلمات عدم فيحيون بإحياء الله ، والأولون بحياة الله تعالى ، وليس من كانت حياته بإحياء الله ، كمن حياته بحياة الله ، وأني وأين فوجودهم كعدمهم وإن كانوا في الظاهر في نعمة

    ألا ترى أن الله إذا كان حزيناً بموت ولده أو بنصر عدوه ربما كان في بستان أنيق بين نور وشقيق ، وفي يده مفاتيح الخزائن ، وبين يديه الخيل الصوافن ، تتهادى له الجواري ، وينزه طرفه في ظلال زهوه ، ويتيه في تصور زخارفه ولهوه ، ولكن قلبه في نار الحزن ، وعينه مطلقة للوسن ، قد عاف الطعام والشراب وضاقت عليه الفسيحات من الرحاب

    قال تعالى (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) الآية ، وقال تعالى فيمن عداهم (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) وقال تعالى (ولنذيقنهم منة العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون)

    وقال رضي الله تعالى عنه في قول الله لرسوله (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) إن من هنا للتبيين ، وقال تعالى بعد أن عدد الرسل في سورة الأنعام (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) واستثنى سبحانه وتعالى واحداً منهم في أمر مخصوص فقال (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم)

    وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى في قصة يوسف (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) أي همت فيما هو همها ، فإنها قد عرضت من قبل ليوسف تعريضات فما بلغت ما تريد ، فلما لم يمكن إلا التصريح صرحت به ، فراودته عن نفسه صريحاً ، وهو عليه الصلاة والسلام همه الخلوص منها ، فهم – لما غلقت الأبواب (وقالت هيت لك) ، وما بقي منه بد – بالتخلص منها بقتل أو بضرب أو بما يدفعها عنه ، لأنه ذلك همه لولا أن رأي برهان ربه ، والبرهان الذي رأى هو صورة امرأة العزيز ، لأنها برهان لصانعها جل وعلا ، لأن البرهان للشئ هو الدلالة عليه ، وذلك معنى قول أبي بكر رضي الله عنه : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ، ومعنى :

    وفي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد

    فألهمه سبحانه وتعالى أن يدرأ هي أحسن ليصرف عنه السوء والفحشاء بذلك التخلص وهو الهرب (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب) وقد كان يوسف أراد أن يكلمه عند أن ألفياه ، لكنه رد أمره إلى الله سبحانه (قالت ما جزاء من أراد بأهله سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم) أشارت عليه بالسجن خوفاً عليه من القتل عند الغيرة كما تفعله الملوك ، فلما تكلمت بذلك دافع عن نفسه فقال (هي راودتني عن نفسي)

    وسئل رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)

    فأجاب : إن لها وجوها ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يتحيز ، فكذلك كلامه لا يتحيز في معنى ، ومن حيزه في معنى فهو لقصور علمه وفهمه ، فأحد وجوه تفسيرها : هل جزاء الإحسان من الله ابتداء إلا الإحسان منه انتهاء ؟ أي ما ابتدأ سبحانه وتعالى من العطاء لا يسترجعه لأنه حرم ذلك على عبيده ، فما ظنك به جل جلاله وهو بالإحسان بادئ حاشاه يختم بالإساءة

    ولكن إذا نزعت عن الإنسان نعمة أنعم الله عليه بها فإنما هو لكونه لم يقبلها ، فإذا ألبسه الله حلة قد يلبسها أياماً ثم يلقيها في الساعة وقد لا يقبلها ، فيقال له أعطيناك حلة فلم تقبلها نحن نعطيها غيرك ، أي نعمة كانت نعمة دين أو نعمة دنيا (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) ابتدأ كل إنسان بالإسلام لأن كل مولود يولد على الفطرة فلم يقبله البعض بل تهود أو تنصر ، وعلى هذه غيرها من جميع النعم

    وسئل رضي الله تعالى عنه عن تفسير قول الله تعالى (ويل لكل همزة لمزة) فأجاب : إن (ويل) واد في جهنم مخصوص جعله الله للأفاك : أي الكذاب ، وللمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وللمطففين وللهمازين اللمازين ، والهمزة واللمزة متقاربان ، وهو الذي ينظر في عيوب الناس التي لا تضره ولم ينظر في عيوب نفسه التي تضره

    قال تعالى (هماز مشاء بنميم) وقال تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) أي يعيبونك (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) وهم المتشوفون بقلوبهم لما في أيدي الناس (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) وقال تعالى (الذي جمع مالاً وعدده) أي هذا الرجل الملازم على جمع ما في أيدي الناس (يحسب أن ماله أخلده) وقد لا يأكل من ماله ذلك لقمة (كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة) أي مطبقة (في عمد ممددة) وذلك لأن العمود الحديد صار ناراً ، والنار لا تفارقه وذلك أشد في العذاب ، نسأل الله العافية والسلامة

    وسئل رضي الله تعالى عنه عن الشرط الذي في قوله تعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)

    فأجاب : إن الآية تحتمل معنيين : أحدهما قصر الصلاة من رباعية إلى ثنائية ، والآخر عدم التطويل ، لأنه ثبت أنه كان يحصل لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم حزن بعدم التطويل

    وفي بعض الأحاديث " أن اثنين من الصحابة قام أحدهما يصلي ونام الآخر ، فجاء العدو ورماه بسهم فسهم اثنين أو ثلاثة ، فقال النائم للمصلي : هلا أيقظتني ؟ قال : كنت في سورة طويلة فخشيت أن أقطعها " ومفهوم الشرط معمول به في هذا المعنى ، وأما على كون القصر من الرباعية إلى الثنائية ، فليس الشرط معمولاً به ، بل تقصر الصلاة في السفر في الأمن

    وسئل رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى : (يؤتي الحكة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب)

    فأجاب بان الحكمة هي استعمال العلم في مجالاته ، وأن يتجنب ما نهاه ربه عنه على أحسن حال ، وأن يستعمل مكارم الأخلاق مع جميع خلق الله تعالى

    وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى : (ففهمناها سليمان) قال : المذكور في القرآن قصة واحدة وهي ثلاث قصص :

    الأولى : المذكور في القرآن وهي قوله تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلماً) وذلك أنه لما جاء الخصمان عند داود عليه السلام حكم عليه داود أن يغرم لصاحب الزرع زرعه فلم يجد ما يغرم صاحب الغنم سوى الغنم ، فغرمها جميعها لصاحب الزرع ، فمرا على سليمان عليه السلام فسألهما عن حكم داود فأخبراه ، فقال : أنا أحكم غير هذا الحكم ؛ الغنم تبقى لدى صاحب الزرع ينتفع بألبانها وصوفها ، وصاحب الغنم يقوم بمؤنة الأرض حتى تعود كما كانت عليه ، وكل واحد منهما يرد لصاحبه حقه ، فقال الله سبحانه وتعالى (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) وداود حكمه ذلك هو عين الصواب لأنه حكم عليه بأن يغرم ما أفسدته أغنامه ، فقدر الذي أفسدته فجاء بقيمة أغنام فهو عن علم وحكم ، لكن حكم سليمان أخف لأن كل واحد منهما صارت نفسه طيبة بذلك الحكم

    والقصة الثانية : أن امرأتين خرجتا إلى البرية بولديهما صغيرين فجاء الذئب فافترس أحد الطفلين ، فسبقت الكبيرة من المرأتين وقد فقدت ولدها إلى داود ، وكل واحدة ادعت أنه ولدها ، ولكن لما كان في يد الكبرى حكم لها به لكون يدها ثابتة عليه وذلك عين الصواب في الحكم ، فمرتا على سليمان فسألهما عن الحكم فذكرتا له فقال : عندي حكم غير هذا ، ثم أخذ الشفرة وقال : نقسمه نصفين لكل واحدة نصفه ، فرضيت بالحكم التي هو في يدها ، والأخرى قالت : لا تقسمه يا نبي الله هو ولدها قد رضيت بحكم داود ، فعلم أنه ولدها ؛ لأنه أدركها الحنان الذي لا يتفق إلا للأم فحكم لها بالولد

    القصة الثالثة : أنهم جاءوا بامرأة بكر حول فرجها مني ، فأراد داود أن يقيم عليها الحد ، فقال سليمان : ائتوني بنار ، ثم أحمى الذي يزعمون أنه مني على النار فنضج وإذا هو زلال بيض ، فتيقن أن ذلك كيد وأنقذها من حكم الجلد

    وقال رضي الله تعالى عنه : قال الله تعالى : (إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك) وهي الجمال والكمال (ويهديك صراطا مستقيما)

    وهو سر قوله تعالى (إن ربي على صراط مستقيم) (وينصرك الله نصرا عزيزا) والنصر العزيز لا يكون إلا لله تعالى

    ثم قال بعد تمام هذه الآية (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) أعاد الضمير مفردا ولم يعده مثنى ، فهنا نكتة بينها قوله تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)

    وذلك معنى قوله تعالى في الحديث القدسي " لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره والذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها " كما يليق بجلاله تعالى

    تأمل سطور الكائنات فإنها

    من الملك الأعلى إليك رسائل

    وقد خط فيها إن تأملت خطها

    ألا كل شئ ما خلا الله باطل

    وفي بيعة الرضوان قال النبي r (هذه يد الله ، وأشار إلى اليمنى ؛ وهذه يد عثمان ، وأشار إلى اليسرى ، أو قال اليسار ، ثم وضع إحداهما على الأخرى)

    فظهر معنى ذلك بالفعل في ارتقاء عثمان رضي الله تعالى عنه على المنبر الدرجة التي كان يرتقي إليها النبي r بعد أن ولى الامر قال الله سبحانه وتعالى (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك وفيقا) فرقى النبي r إلى درجة النبوة ، ثم رقى أبو بكر رضي الله تعالى عنه : إلى الدرجة التي تحتها وهي درجة الصديقين ، ثم رقى عمر رضي الله تعالى عنه : بعده إلى درجة الشهداء وهي التي تحتها

    ثم جاء عثمان رضي الله تعالى عنه فرقى إلى الدرجة التي كان يرقى إليها النبي r وذلك في شطر خلافته الأخرى ليظهر سر وضع يد الله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله في يد عثمان عند بيعة الرضوان ، وهم نقموا على عثمان في ذلك ، ولكنهم لم يعرفوا الحقائق في الأمور وبالله التوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل

    وقال رضي الله تعالى عنه : تأملت في قوله في قصة سليمان عليه الصلاة والسلام (فسخرنا له الريح تجري بأمره)

    وقال للنبي r (ليس لك من الأمر شئ) فلاح لي المعنى بحمد الله تعالى ، فسررت به ، وهو أن الله سبحانه وتعالى تولى أمره جميعه في جميع أحواله في حركاته وسكناته وإقدامه وإحجامه وسيره ووقوفه ونطقه ، فهو سبحانه بصره ولسانه وسمعه ويده

    قيل لبعض الأولياء وهو أبو يزيد رضي الله تعالى عنه : فوض أمرك إلى الله فقال : ليس لي أمر فأفوضه إليه ، وفرقان بين الأمر من الله سبحانه وتعالى وبين الأمر من العبد

    وقال رضي الله تعالى عنه في قوله (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) وهو جل جلاله إذا أمر بخلق حسن فهو أحق به بدليل (ما كان الله لينهاكم عن الربا ويأخذه منكم)

    فهو أحق سبحانه وتعالى إذا حضر قسمة الرحمة منه سبحانه وتعالى بين خلقه أن يرزق منها من أساء من خلقه وهو أرحم الراحمين لا يحكم على خلقه حكما إلا وهو أولى به جل وعلا

    حين خرج موسى عليه السلام يستسقي بجميع قوله أوحى الله إليه : إن فيكم رجلا نماما خطاء ، فقال : يا رب عرفني من هو أستتيبه فقال : كيف أنهي عن النميمة وأكون نماماً – سبحانه وتعالى ما ألطفه بخلقه ! وأمره أ، يأمره جميعا بالتوبة فيكون من جملتهم

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 22, 2024 6:12 pm